- "بحار المياه العذبة في الربع الخالي: الحقيقة والخيال-الجزء الثاني"، جريدة الرياض عدد12331 (الجمعة 15 محرم 1423هـ، 29 مارس 2002م).
الحياة الفطرية الحالية في الربع الخالي:
كان المها العربي (الوضيحي) يستوطن الربع الخالي حتى الستينات الميلادية عندما قضى عليه الصيادون. وهو من الأبقار الوحشية كبيرة الحجم التي يصل وزنها إلى نحو 100 كيلو جرام. وهو حيوان صحراوي شديد التحمل للظروف البيئية القاسية، ويتغذى على الأعشاب البرية ولا يحتاج إلى شرب الماء حيث أنه يأخذ حاجته من الماء من النباتات التي يرعاها ومن الجذور العصارية التي يحفر التربة ليحصل عليها.
ولا يزال ظبي الريم أو الظبي الرملي موجوداً في الرُّبْع الخَالِي رغم الصيد الجائر الذي تعرض له. ويتميز بقصره وقوته وامتلاء جسمه ولونه الشاحب وامتداد عنقه إلى الأمام أثناء ركضه السريع. وهو يميل إلى التجمع في قطعان كبيرة وجميلة يتراوح عدد أفرادها عادة بين خمسين ومائة ظبي، ويلتصق أفراد القطيع ببعضهم البعض وقت الخطر طلباً للحماية. ويتكاثر ظبي الريم في فصل الربيع وكثيراً ما تلد إناثه توائماً وهو يستوطن السهول الرملية والحصوية ومن المحتمل أن تكون رمال الصحراء هي التي ساهمت في إنقاذه من الانقراض.
وما يزال يوجد في هذه المنطقة حيوانات وحشية أخرى فمن الثدييات نجد حيوانات مثل الذئاب في حواف الرُّبْع الخَالِي الجبلية، كما يوجد أيضاً الثعلب الرملي، والقط البري، والقط الرملي، والراتل (آكل العسل)، إضافة إلى الأرانب البريةواليرابيع (الجرابيع) الصغيرةوالثعالب الحمراء والقنافذ والفئران.
ومن الزواحف يوجد ثلاثة أنواع من عائلة البرص، ومن عائلة الحراذين يوجد أربعة أنواع، والضب، والورل، ومن عائلة السحالي يوجد أربعة أنواع، والصقنقور، ومن الثعابين هناك ثلاثة أنواع.
ويوجد في الرُّبْع الخَالِي كذلك عدد من الطيور الجارحة التي تعيش على ما يوجد فيه من القوراض والزواحف والسحالي، والعصفوريات، وبعض الطيور المائية خاصة في شرقي الرُّبْع الخَالِي حيث تتوفر بعض المستنقعات المائية شبه العذبة والمالحة، إضافة إلى عدة أنواع من الحشرات منها عدة أنواع من الجراد والخنافس ونوع واحد على الأقل من العقارب.
وتعد الرمال في المناطق الجافة نعمة لا تقدر حق قدرها، فهي نعمة للغطاء النباتي وللحيوانات المتكيفة مع المناخ الجاف. فالمطر القليل الذي يسقط على المناطق الصحراوية الرملية يتسرب بسرعة داخل الرمال ولهذا يجري حفظه من التبخر. وهذه الظاهرة تفسر غنى المناطق الرملية بالنباتات المعمرة التي تتحمل الفترات الطويلة من الجفاف. وعلى النقيض من هذا ما عليه حال التربة العارية من الرمال فهي تفقد مياه الأمطار من خلال التدفق السطحي أو التبخر إذ أن حبيبات التربة الطينية الناعمة سرعان ما تنتفخ مع أول رشة من المطر مغلقة مسام التربة مما يمنع مياه الأمطار من التسرب. ولكن مثل هذه التربة الطينية تصبح مفيدة إذا وقعت تحت غطاء من الرمل إذ أنها تمنع مياه الأمطار المتسربة من استمرار التعمق وتجعله متاحاً للنباتات المتعمقة في الرمال. ولهذا تنجح النباتات المعمرة في التكاثر في المناطق الرملية لتوفر الماء خلال الفترات الجافة، بينما لا يحدث هذا في التربة الجرداء الخالية من الرمال نظراً لأن أي نبتة جديدة سيقتلها لهب الصيف لعدم وجود ماء كاف يغذيها. وغالباً نجد أن مناطق الرمال تحوي طبيقات رفيعة من التربة مدفونة تعود إلى عصور مناخية ماضية وهي تساعد في توفير الأملاح والمواد العضوية اللازمة لنمو النباتات وزيادة قدرة الرمال على الاحتفاظ بالماء.
وفي شرقي الرُّبْع الخَالِي هناك غطاء نباتي جيد من النباتات المعمرة فيساعد الضباب والندى الكثيف الذي يتكون عادة في الصباح الباكر والمساء على تعويض ندرة الأمطار الساقطة في هذه المنطقة. ومن النباتات المعمرة الرئيسية يوجد العبل، والحاد، والزهر، والهرم، والبركان، إضافة إلى نباتات أخرى معمرة مثل العندب، والعراد، والشنان. ومثل النباتات الحولية التي تكاد لا ترى في هذه المنطقة لا يوجد النصي والقصبا (الهجين) إلا في مناطق محدودة.
ونظراً لصعوبة الوصول إلى شرقي الرُّبْع الخَالِي فالنباتات في حالة فطرية ممتازة لم تتأثر بعد ما عدا بعض الأماكن القليلة التي يرتادها البدو في الشتاء والربيع فقد جرى قطع لأشجار العبل والحاد. بل يمكن عد هذه المنطقة أفضل منطقة بها غطاء نباتي جيد بعد منطقة عسير.
المياه في الربع الخالي:
يستخدم سعادة الدكتور فاروق الباز مصطلحات علمية قصد بها الإثارة مثل تعبيرات "بحيرات المياه العذبة الجوفية" و"بحار المياه الجوفية العذبة الجوفية"، ومن المعروف بأن المياه الجوفية لا توجد في جوف الأرض على شكل بحيرات أو بحار بل إنها تملأ الفراغات الموجودة بين ذرات الصخور خاصة الرملية منها.
ومن حسن حظ المملكة أن بها كميات من المياه الجوفية في احدى عشرة طبقة جيولوجية major aquifersرئيسية خازنة للمياه وهي موجودة ضمن النظام العظيم للصخور الرسوبية المائلة نحو الشمال الشرقي والشرق والجنوب الشرقي، وتتجسد في هذه الطبقات مشكلات البلاد وحلولها المحتملة.
ويتألف كل متكون جيولوجي من منطقتين إحداهما ظاهرة على سطح الأرض تعرف بالجزء غير المحصور unconfined partوالأخرى مغطاة بصخور متكون أحدث منه ويعرف بالمحصور confined partوإذا كان المتكون الجيولوجي يختزن الماء وفيه خاصية القدرة على إنتاجه بكمية اقتصادية فيعرف بالطبقة المائية aquifer. فالأجزاء غير المحصورة من الطبقات المائية confined aquifersتمتاز بقدرتها على الاستجابة للتغذية من جراء هطول الأمطار عليها أو من جراء السيول التي تمر عبرها حيث تتسرب هذه المياه باتجاه باطن الطبقة حتى تصل إلى مستوى سطح الماء ويلاحظ ذلك جلياً بعد هطول الأمطار مباشرة وهناك شواهد على ذلك من قبل عامة الناس وأصحاب المزارع القديمة. ويقارن ارتفاع مناسيب المياه في الآبار مع كمية الأمطار الساقطة على منطقة البئر حيث يلاحظ ارتفاع مناسيب المياه الجوفية كلما ازدادت كثافة هطول الأمطار وطالت مدتها. ويوجد بالمملكة أكثر من 18 طبقة مائية (رئيسية وثانوية) لها أجزاء غير محصورة وأجزاء محصورة.
إن طبقات الصخور العميقة الخازنة للمياه الجوفية في حاجة إلى الحفر الاستكشافي باتباع أساليب الحفر الرحوي، وقد حفرت آبار ارتوازية عميقة تتراوح أعماقها بين 100-1600 متراً في بعض المناطق الجافة، وهذه الآبار الارتوازية تتدفق تلقائياً في البداية مما يثير سكان هذه المناطق لدرجة عظيمة، غير أن هذا التدفق الذي لا يخضع لضابط يؤدي في النهاية إلى التعجيل بانتهاء الضغط ونقص تدفق المياه بعد انخفاض منسوب المياه الجوفية. والآبار الارتوازية ليست متينة البناء على الدوام ولذلك يؤدي التسرب منها إلى امتزاج المياه المنبثقة من مختلف طبقات الصخور الخازنة التي تتفاوت جودة مياهها.
ولا بد لنا من معرفة بالسلوك الفيزيائي للتكوين الجيولوجي الخازن للمياه حتى ندرك الآثار المترتبة عليه من جراء ضخ المياه، فهذه الطبقات الخازنة تتمتع في الظروف الطبيعية بحالة من التوازن حيث لا توجد آبار، ويكون الخارج مساوياً للوارد أو المتجدد ليظل منسوب المياه ثابتاً عبر فترة زمنية معينة من التقلب. وعند حفر الآبار في الطبقات الجيولوجية الخازنة فإن عبئاً جديداً يفرض على نظام التكوين الجيولوجي فرضاً. وهنا نجد أن هذا التوازن قد اختل بصورة حادة فتحاول الطبقة الخازنة أن تتكيف مع الظرف الجديد إما بزيادة تجديدها إذا أمكن ذلك أو بخفض معدل الخارج من المياه منها. وعملية التجدد هذه في واقع الأمر ضعيفة إلى أدنى الحدود في أغلب البلاد الجافة نظراً لندرة الأمطار، ومن ثم تفقد الطبقات الخازنة مخزونها من الماء قليلاً قليلاً فينخفض منسوب مياهها.
وقد دلت الدراسات الهيدروجيولوجية على أن عدة طبقات جيولوجية تختزن مياه جوفية صالحة للاستعمال وتغطي مساحات شاسعة في المملكة وسميت هذه المكونات بأسماء محلية ومرتبطة أساساً من ناحية العمر بالأسماء العالمية. وقد لا توجد جميع المتكونات الرسوبية في كل المنطقة الرسوبية من البلاد فهناك متكونات محدودة بالمنطقة الشرقية وأخرى في القصيم فعلى سبيل المثال لا يوجد متكون أم رضمة إلا في المنطقة الشرقية بينما يوجد متكون ساق في القصيم ولا يوجد في المنطقة الشرقية وهكذا. ويختلف سمك الطبقات الحاملة للمياه الموجودة في المتكونات من موقع لآخر، كما أن نوعية المياه وكمياتها قد تختلف من موقع لآخر لنفس الطبقة وقد تنتج طبقة معينة مياه متدفقة تلقائياً بدون آلات ضخ في موقع معين، وفي مواقع أخرى يكون مستوى الماء على بعد عشرات الأمتار تحت سطح الأرض وعلى العموم فإن نوعية المياه تتحسن كلما قربنا من منكشف الطبقة الحاملة للمياه.
جدول يوضح بعض المعلومات عن المتكونات الهامة الحاملة للمياه في المملكة
نوعيـة الميـاه
(المواد المذابة الصلبة TDS)
|
العمـر الجيولوجي
لمياه التكوين (سنة)
|
مـخـزون الـميـاه
المؤكـد (مليون م3)
|
اسـم الطبقـة
|
600 - 1000
|
28.000
|
49.900
|
ســـــاق
|
500 - 1000
|
30.000
|
69.000
|
الوجـيـــد
|
500 –3500
|
15.000
|
5.600
|
تبـــــوك
|
1000 –5800
|
25.000
|
53.400
|
المنجـور وضرما
|
تصـل إلى 150.000
|
8000 - 16.000
|
89.000
|
البياض والوسيع
|
(ســـيئـة جـداً)
|
22.000
|
65.600
|
أم رضمـة (+ضرما)
|
1180 - 30.000
|
|
5.000
|
الدمـام (+ النيوجين)
|
|
|
337.500
|
الإجـمــــالي
|
|
|
162.500
|
الطبقـات الثـانويـة
|
|
|
500.000
|
إجـمــالي الاحتيـاطي
|
المصدر: أطلس الميـاه، وزارة الزراعة والمياه (1400هـ).
ويتضح من هذا أن وضع المياه في المملكة العربية السعودية ليس مجهولاً فلقد قامت وزارة الزراعة والمياه بدراسات علمية مكثفة عن مصادر المياه في أنحاء المملكة العربية السعودية كلها بما فيها الربع الخالي، وقد حددت خلال هذا المسح التكوينات الجيولوجية الحاملة للمياه وقدرت كمياتها ورسمت خرائطها (انظر الأشكال المرفقة التي يظهر منها امتداد الطبقات الجيولوجية الحاملة للمياه تحت منطقة الربع الخالي). وكما يظهر من الأشكال يمكن الوصول في منطقة الربع الخالي إلى خمس طبقات حاملة للمياه هي: طبقتا المنجور وضرما، وطبقتا الوسيع والبياض، وطبقة أم رضمة، وطبقة الدمام، وطبقات النيوجين. وفيما يلي بعض المعلومات البسيطة عنها:
1- طبقتا المنجور وضرما:
ينسب هذا التكوين إلى خشم المَنْجُور (خشم الخَلْطَاء) (31َ 23oشمالاً و 11َ 46oشرقاً) حيث يظهر أعلى التكوين فيه. ويعود هذا التكوين للعصر الترياسي أو الجوراسي من الزمن الثاني، ويتكون من الحجر الرملي والطفل والكونجلوميريت ولا يتغير هذا التركيب إلا قليلاً على طول منكشف التكوين.
أما تكوين ضُرُمَا فينسب إلى بلدة ضُرُمَا (36َ 24oشمالاً و 07َ 46oشرقاً)، وهو يعود إلى العصر الجوراسي الأسفل، ويتكون من تعاقب سميك من الحجر الجيري.
2- طبقتا الوَسِيع والبياض:
ينسب تكوين الوَسِيع إلى خشم الوَسِيع (23َ 24oشمالاً) حيث يقع المقطع المثالي، وهو يعود إلى العصر الكريتاسي الأوسط، ويتكون من الحجر الرملي الرقيق نسبياً مع وحدة من الطفل، وحول خشم الوَسِيع يحوي عدسات من الدولوميت الرملي الأحمر وحجر جيري لين.
وينسب تكوين البَيَاض إلى منطقة البَيَاض، السهل الواسع الذي تغطيه جراول الزمن الرابع، وهو يعود إلى العصر الكريتاسي الأسفل. ويتكون من الحجر الرملي متخالف التطبق مع بعض الطبيقات المتداخلة من الطفل، وتوجد بعض طبيقات الكونجلوميريت وطبقات رقيقة جداً من الأحجار الحديدية على مستويات مختلفة.
3- طبقة أمّ رَضَمَة:
ينسب تكوين أمّ رَضَمَة إلى آبار أمّ رَضَمَة (41َ 28oشمالاً و 41َ 44oشرقاً)، وهو يعود إلى عصر الباليوسين وعصر المايوسين الأسفل، ويتكون من سلسلة متكررة من حجر جيري فتاتي دقيق التبلور ومن حجر جيري كالكارينيتي وحجر جيري دولوميتي ومن دولوميت. ويبلغ سمكه 241 متراً في المقطع المثالي.
4- طبقة الدَّمَّام:
يوجد هذا التكوين في معظم دول شبه الجزيرة العربية مثل شرقي المملكة العربية السعودية، ودولة الكويت، ودولة البحرين، ودولة قطر، وسلطنة عُمَان. وهو يتكون من الأحجار الجيرية. وقد سمي بهذا الاسم نسبة لقبة الدَّمَّام التي يبرز بها كامل التعاقب في مرتفع واضح بيضاوي الشكل، ويعود تكوين الدَّمَّام إلى عصر الأيوسين الأسفل والأوسط. وتكوين الدَّمَّام عبارة عن مزيج من الأحجار الجيرية والمارل والطفل، وهي تتميز بلونها الفاتح، ويتكون تكوين الدَّمَّام من عضوي الخُبَر والعَلاة ذات الأحجار الجيرية. وسمكه 33 متراً في المقطع المثالي. وينسب عضو الخُبَر إلى مدينة الخُبَر في المنطقة الشرقية، كما ينسب عضو العَلاة إلى بئر العَلاة (49ً 27َ 26oشمالاً و 11ً 50َ 49oشرقاً).
5- طبقات النيوجين (الهَيْدَرُوك واللِّدَام والهُفُوف والخَرْج):
ينسب تكوين الهَيْدَرُوك إلى جبل الهَيْدَرُوك (36ً 04َ 27oشمالاً و 24ً11َ 49oشرقاً)، وسمكه 84 متراً في المقطع المثالي، وينسب تكوين اللِّدَام إلى جبل اللِّدَام (42ً 21َ 26oشمالاً و 42ً 27َ 49oشرقاً)، وسمكه 91 متراً في المقطع المثالي، وينسب تكوين الهُفُوف إلى مدينة الهُفُوف، وسمكه 95 متراً في المقطع المثالي، وتكوين الخَرْج إلى منطقة الخَرج، وسمكه 28 متراً في المقطع المثالي. وهذه التكوينات عبارة عن سلسلة من الطبقات التي تعود إلى عصري المايوسين والبلايوسين (النيوجين).
ولمزيد من التفصيلات يرجى الرجوع إلى قائمة المراجع.
حقائق عن المياه الجوفية العميقة في المملكة:
1- المياه الجوفية العميقة مياه حفرية:
تبين أعمار هذه المياه الجوفية في وضوح أن المياه الجوفية العميقة المستخدمة في الوقت الحاضر هي مياه حفرية، ولا يمكن في ظل المناخ الجاف الحالي أن تتجدد هذه الطبقات الخازنة ومن هنا جاءت أهمية العناية بإدارة استخدام هذه الطبقات. وفي أطلس المياه الذي أصدرته وزارة الزراعة والمياه صفحة 73 ما يلي:"ويشير العمر القديم نسبيا للماء الموجود في الطبقات الرئيسية الحاملة للمياه في المملكة إلى أن المياه الجديدة المضافة إلى هذه الطبقات عن طريق التغذية قليلة جداً. ونتيجة لذلك فإن كثيرا من الماء الذي يتم ضخه من الطبقات العميقة الحاملة للمياه لأغراض زراعية هو ماء مخزن وأن إحلال ماء مكانه يحتاج إلى سنين طويلة أو إلى سلسلة من الأحداث الهيدرولوجية الكبيرة. ورغم توفر مياه كافية لسنين عديدة قادمة إلا أنه أمر شديد الأهمية مراقبة أية زيادة في استعمال المياه عن كثب من أجل الاستفادة على الوجه الصحيح من هذا المصدر الذي لا بديل له."
2- المياه الجوفية مياه ناضبة:
نظراً لأن كمية التجدد الطبيعي ضئيلة جداً ونظرا لأن هذا من الماء الحفري فيصاحب استغلال موارد المياه الجوفية على الدوام خطر نضوبها. ويمكن القول عن يقين بأن كل ما يمكن أن ينفد سينفد في يوم من الأيام، وثمة كثير من دراسات الحالة التي تؤكد هذا المبدأ والماء ثمين في أي مكان ولاسيما في المناطق الجافة وينبغي التعامل معه على هذا الأساس. وفي أطلس المياه الذي أصدرته وزارة الزراعة والمياه صفحة 45 ورد التالي:"إن جميع مياه الطبقات الحاملة للمياه الجوفية تأتي من المياه المخزونة فيها على مدى عدة آلاف من السنين الماضية. والمعدل السنوي لتغذية هذه الطبقات بالمياه قد يكون معدوماً أو لا يكاد يذكر. ولذلك فإنه أينما يتم سحب المياه الجوفية بصورة كبيرة فإن منسوب المياه آخذ في الانخفاض، وسوف يستمر في الانخفاض. وفي الطبقات غير السميكة الحاملة للمياه تصبح إمدادات المياه معرضة للخطر، بينما في الطبقات السميكة فإن ضخ المياه منها يصبح غير اقتصادي بسبب بعد منسوب المياه."
وهناك شواهد على أن عملية النضوب قد بدأت تأخذ بعداً ملموساً فقد نضبت بعض الآبار في بعض مناطق المملكة، ولم يعد يرى الماء في دحل هيت منذ سنوات، وغارت مياه عيون الأفلاج إلا من بعض المياه البسيطة في شقوق متفرقة. ويجب ألا يغيب عن بالنا في هذه الفترة من فترات النشاط أننا نتعامل هنا مع بلاد جافة ذات موارد محدودة من المياه، والموارد الجوفية العميقة في المملكة العربية السعودية يجب أن تعتبر موارد غير متجددة كالنفط تماماً، ويجب التركيز على الفترة التي ستتناقص فيها مياه هذه الطبقات.
وفبما يلي سنقدم عرضاً لما جاء في محاضرة الأستاذ الدكتور محمد بن حمد القنيبط عن مشكلات المياه والمستقبل:
أكد الأستاذ الدكتور محمد القنيبط في محاضرته القيمة على أن الواقع الجغرافي والبيئـي ومورفولجية الموارد الطبيعية للملكة ودول الجزيرة العربية تؤكـد مجتمعة أنَّ بيننـا قواسـم مشـتركة فيمـا يخص الـمـوارد الـمـائيـة، التي من أهمهـا:
1- دول الجزيرة العربية لا يوجـد فيهـا أنهار أو بحيرات عذبة كانت أم مالحة.
2- دول الجزيرة العربية لا تشترك مع دول أخرى في بحيرات أو أنهار.
3- الظروف المناخية لدول الجزيرة العربية متطابقة إلى حد كبـير (باستثناء منطقة عسير وشمال اليمن) المتميزة بالمناخ الصحراوي الجاف شـحيح المطـر (بمتوسط سنوي 50 -100 ملم).
4- محــدودية الـمــوارد الـمــائيـة الجوفيــة في دول الجزيرة العربية وتمـيزها بانخفـاض (وأحياناً انعـدام) ميـاه التغـذية للطبقـات الحاملة لهـذه الميـاه غـير المتجـددة، التي تصــل أعمـارها في المملكة إلى أربعين (40) ألف ســنة وأكثر.
5- اســتئثار القطـاع الزراعي بنصيب الأسـد من إجمالي الـميــاه المسـتهلكة من جوفية وتحلية. ففي المملكة، على سبيل المثال، يســتهلك القطاع الزراعي أكثر من 90% من إجمالي الميـاه المسـتهلكة (في الأغراض الزراعية والبلدية والصناعية).
6- تعتمـد المملكة وبقيـة الدول الخليجيـة، بصفـة رئيسـية، على ميـاه التحليـة في توفير حاجتهـا من الميـاه للأغراض البلدية والصناعية. ففي المملكـة توفــر مياه التحليـة حوالي 50% من إجمالي اسـتهلاك الميـاه في الأغراض البلدية والصناعية.
ثم بعد ذلك تحدث عن الـمـوارد الـمـــائيـة في المملكــة فقال:
في ظل واقع عـدم وجود أنهـار أو بحيرات وكذلك شـح الأمطار، فـإنَّ المملكة تحصـل على احتياجاتها المائيـة من أربعـة مصادر هي: (1) المياه السطحية، (2) المياه الجوفية، (3) مياه تحلية مياه البحر، (4) مياه الصرف الصحي المعالجـة.
وقد قدرت خطة التنمية السابعة اسـتهلاك القطاع الزراعي من المياه عام 1419/1420هـ بحوالي 18.450 مليون متر مكعب، يتوقع أن يرتفع إلى 19.850 مليون متر مكعب في نهاية الخطة عام 1424/1425هـ، منها 13.120 مليون متر مكعب من المياه الجوفية العميقة غـير القابلة للتجديد. كذلك تتوقع خطة التنمية السابعة أن يكون إنتاج القمح حوالي 2.1 مليون طن في نهاية الخطة عام 1424/1425هـ. ومن جهة أخرى، فالمعروف أنَّ طن القمح يسـتهلك حوالي 2000 متر مكعب من المياه ذات درجة ملوحة مقبولة (1500 جزء في المليون)، وبالتالي فـإنه سـيسـتنزف حوالي 4200 مليون متر مكعب من المياه الجوفية العميقة غير المتجددة لإنتاج 2.1 مليون طن قمح عام 1424/1425هـ. بمعنى آخر فإنَّ الاسـتمرار بإنتاج الاسـتهلاك المحلي من القمح سـيعني اســتهلاك محصول القمـح فقط لحوالي 32% من كمية المياه الجوفية العميقة غـير المتجددة التي تقدر خطة التنمية السابعة اسـتهلاكها في نهاية الخطة عام 1424/1425هـ (البالغة 13.120 مليون متر مكعب)، في حين تسـتهلك جميع المحاصيل الأخرى 68% المتبقية (أو 8.920 مليون متر مكعب).
وهنـا يسأل الأستاذ الدكتور محمد القنيبط:
هل من المجدي أن يسـتهلك محصول واحد ثلث كمية المياه الجوفية غـير المتجددة المتوقع ضخها في نهاية خطة التنمية السابعة عام 1424/1425هـ ؟!
ويواصل الحديث فيقول: إنه من جهة أخرى بلغت المساحة المزروعة بالقمح والشعير والأعلاف الخضراء (البرسيم وحشيشة الرودس) عام 2000م حوالي 579 ألف هكتار، تشـكل 59% من إجمالي المساحة المحصولية المزروعة (1.12 مليون هكتار) في المملكة، اسـتنزفت 51% من إجمالي المياه المستهلكة في القطاع الزراعي (10.3 مليار متر مكعب من إجمالي 20.3 مليار متر مكعب). وعلى الجانب الآخر، اسـتنزفت الأعلاف الخضراء بمفردها حوالي 33% من إجمالي اسـتهلاك القطاع الزراعي من المياه عام 2000م (حوالي 6.8 مليار متر مكعب).
وتزداد المشـكلة خطورة وحرجاً إذا علمنا أنَّ أغلب مناطق زراعة القمح (والأعلاف الخضراء) تقع في مناطق التكوينات المائية الجوفية العميقة غـير المتجددة (الجوف، تبوك، حائل، القصيم، وادي الدواسر).
ويكفي للتعريف بجهـود المملكة في تأمين الميـاه اســتعراض تكاليف إنتــاج الميـاه المحـلاة من البحــر، التي تتـراوح بين 1.4 - 24 ريال/ متر مكعب (بمتوسط 2.8 ريال) وذلك في محطـات التحلية وباحتسـاب الوقود بالسـعر المخفض. أي أنَّ هذه التكلفة لا تشـمل تكاليف نقل المياه إلى المدن والقرى وتكاليف توزيعها إلى المنازل.
بمعنى آخـر فـإنَّ الميــاه التي تُكلِّف الدولة والوطن لإنتاجها وإيصـالهـا إلى المنـازل حوالي خمســة ريالات للمتر المكعب تبــــاع للمواطن بعشـر (10) هللات للشريحة الأولى (1-50 م3) وخمـس عشـر (15) هللة للشـريحة الثـانية (51 -100 م3)، ولا تصـل لهذا الرقم (5 ريالات) إلاَّ في الشـريحة الخامسـة والأخيرة (6 ريال/ م3).
ويختم الدكتور محمد القنيبط نقاشه بموضوع إدارة الـمـوارد الـمــائية فيقول:
من المعروف أنَّ الميـاه (العذبة) يصنفها علمـاء المـوارد الاقتصادية Economic Resourcesعلى أنها سـلعة أو خـدمة عـامة Public Good. بمعنى، أنَّ اسـتهلاك شـخص لأي كمية منها لن يحرم شـخصاً آخر، كما هي الحال في السلع الأخرى.
وقد عَرَفَ التاريخ الاقتصادي المعاصر أنَّ السلع أو الخدمات العامة، كالمياه والكهرباء، يتم إدارتها على طريقة الاحتكار الطبيعي Natural Monopoly. أي وجود جهاز أو شركة واحدة تقوم بإدارة الأجهزة المتعلقة بالخدمة أو السلعة العامة. وتحت هذه المظلة أيضاً، تُبين التجارب في كثير من الدول أنَّ إدارة الموارد المـائية تتم بطريقتين:
الأولى: اسـتراتيجية إدارة العرض للمـوارد المــائية.
الثانية: اسـتراتيجية إدارة الطلب للمـوارد المــائية.
أولاً: اسـتراتيجية إدارة العرض Managing the Supply of Water
تفيـد أدبيات اقتصاديات الموارد المائية وإدارتها أنَّ كثـيراً من الدول ـ خاصة الغنية بالموارد المائية ـ تعتمـد على ما يعرف باسـتراتيجية إدارة العرض للموارد المائية Managing the Supply of Water، وليس إدارة الطلب لموارد المياه. حيث تقوم استراتيجية إدارة العرض على ضرورة السـعي لتوفير كميـات المياه اللازمة للأغراض الزراعية والبلدية والصناعية، دون الاهتمام بترشـيد اسـتخدامات المياه في كل قطاع.
من جهة أخرى، فـإنَّ السياسات التي تندرج تحت اسـتراتيجية إدارة العرض للموارد الـمـائية يمكن أن تُقسـم إلى نوعين حسـب القطــاع:
(1) سـياسـات اسـتراتيجية إدارة العرض للموارد المائية في القطاع الزراعي.
(2) سـياسـات اسـتراتيجية إدارة العرض للموارد المائية في القطاع البلدي والصناعي.
وتحت مظلة اسـتراتيجية إدارة العرض للموارد المائية تظهر في كثـير من الدول مشـكلة كبـيرة تتمثـل في ارتفاع اسـتهلاك القطاع الزراعي من المياه، بسـبب تبني مثل هذه الدول أدوات أو سـياسـات لدعم القطاع الزراعي من شـأنها أن تؤدي إلى الإسـراف في اسـتهلاك الميـاه في الأغراض الزراعية. بمعنى آخر، فـإنَّ الدعم الزراعي يدخل ضمن أدوات أو سـياسـات اسـتراتيجية إدارة العرض للموارد المائية في القطاع الزراعي. حيث قـد يتضمن الدعم الزراعي الأشـكال أو الصور التاليـة:
1- دعم شـراء المحركات ومضخات (طلمبات) الميـاه.
2- القروض الميسـرة للقطاع الزراعي دون تمييز بين المحاصيل بالنسبة لاسـتهلاك المياه.
3- دعم شـراء المحاصيل الزراعية (كالقمح في المملكة).
4- دعم الصادرات الزراعية.
5- حماية الإنتاج الزراعي المحلي.
هذا وتشـمل سـياسات أو أدوات اسـتراتيجية إدارة العرض في قطاع المياه البلدية والصناعية تلك السـياسات التي تؤدي إلى الإسـراف في اسـتخدام الميـاه؛ حيث قد تشـمل السـياسـات التالية:
1- رسـوم منخفضة للمياه في القطاع البلدي والصناعي.
2- عدم الجدية في تحصيل رسوم المياه.
3- إهمال تسـربات شـبكة توزيع المياه في المدن والقرى.
4- عدم دعم شراء واستعمال المواد والأجهزة الصحية قليلة الاستعمال للمياه.
بمعنى آخر، فـإنَّ مشـكلة الاستهلاك الضخم للمياه في القطاعين الزراعي والبلدي في المملكة (وغيرها من الدول المماثلة)، نابعة أسـاسـاً من مبدأ التركيز على اسـتراتيجية إدارة العرض للموارد المـائية، ويضاعف هذه المشكلة إهمال اسـتراتيجية إدارة الطلب للموارد المائية.
ثانياً: اسـتراتيجية إدارة الطـلـب Managing the Demand for Water
تهدف استراتيجية إدارة الطلب على الموارد المائية إلى الاهتمام بترشـيد الطلب على المياه ـ في القطاعين الزراعي والبلدي ـ من خلال سـياسات تشـجع على هذا المنحى. بمعنى آخر، تسـعى هذه الاستراتيجية إلى ترشيد استخدام المياه في القطاعات المختلفة من خلال اعتماد تطبيق سياسات تحث المستخدمين على ترشيد استخداماتهم المائية. ويمكن تقسـيم السياسات التي تندرج تحت اسـتراتيجية إدارة الطلب للموارد المائية إلى نوعين حسـب القطاع:
1- سـياسـات اسـتراتيجية إدارة الطلب للموارد المائية في القطاع الزراعي.
2- سـياسـات اسـتراتيجية إدارة الطلب للموارد المائية في القطاع البلدي والصناعي.
فاسـتراتيجية إدارة الطلب للموارد المائية في القطاع الزراعي في المملكة يمكن أن يندرج تحتهـا السياسـات التالية التي تهدف إلى ترشيد استخدامات المياه في هذا القطـاع:
1- إعداد سـياسـة واسـتراتيجية مائيـة على مسـتوى المملكة.
2- اعتمـاد التخطيط والدراسـة والبحث على المدى الطويل في موضوع الموارد المائية.
3- وقف دعم زراعة القمح.
4- تقليـص زراعة الأعـلاف الخضراء، وحصرهـا في مناطق المياه الجوفية غـير العميقة والمتجددة.
5- التوعية الوطنية بضخـامة مشـكلة الميـاه.
6- تقليص المساحة المزروعة، وكذلك الحد من زراعة المحاصيل شـرهة الاستخدام للمياه.
7- التوعية الوطنيـة بضـرر الأعـلاف الخضـراء على الموارد المائية، كونها أكـبر مسـتهلك للمياه في القطاع الزراعي.
8- تقليص الدعم الحكومي للقطاع الزراعي.
9- إلغاء الإعانات والقروض الميسرة على المضخات وغيرها من الأجهزة المتعلقة باسـتخراج المياه الجوفية.
10- فرض رسـوم على المضخات (والطلمبات).
11- تقييـد تراخيص حفر الآبـار، خاصة على التكوينات العميقة غير المتجددة.
12- مراقبة عمليات حفـر الآبار، ووضع مواصفـات دقيقـة للحفر تمنـع تداخـل مياه الطبقات ببعضها البعض.
أمـا أدوات أو سـياســات اسـتراتيجية إدارة الطلب للموارد المائية في القطـاع البلدي والصنـاعي فهي تركز على الطرق التي تشجع المستخدمين على ترشيد اسـتخداماتهم الـمـائية في المنزل والمصنع، حيث يمكـن أن تشـمل هذه السـياسـات مـا يلـي:
1- إعداد اسـتراتيجية مائيـة على مستوى المملكة.
2- تعديل رسوم المياه بحيث تشجع على ترشيد استخدامها في القطاعين المنزلي والصناعي.
3- تقليص تسـربات مياه شـبكة توزيع المياه في المدن والقرى.
4- تحسـين تحصيل رسـوم المياه في المدن والقرى.
5- توعية المواطنين بضخامة مشـكلة الميـاه.
6- توفير ودعم شراء الأدوات والأجهزة الصحية قليلة الاستعمال للمياه.
7- منـع اســتيراد أو تصنيع الأدوات الصحية وأدوات السباكة كثـيرة الاسـتهلاك للميـاه.
8- تشـجيع تسـويق الأجهزة المساعدة في ترشـيد استهلاك الأدوات الصحية للميـاه.
9- دعم اسـتيراد الأدوات الصحيـة والأجهزة التي ترشـد اسـتخدام الميـاه، وكذلك دعم تصنيعها محلياً.
10- اعتمـاد التخطيط والدراسـة والبحث على المدى الطويل في موضوع الموارد المائية.
11- ضرورة تكوين مخزون اسـتراتيجي من الميـاه قرب المدن والقرى يكفي لاسـتهلاك أسـبوعين على الأقل.
12- تشـجيع المسـتهلكين على تكوين مخزون اسـتراتيجي من الميـاه في خزانات المنزل.
وفيمـا يلي سـيتم التطرق لثلاث أدوات أو سـياسـات لاسـتراتيجية إدارة الطلب على الميـاه للأغراض الزراعية والبلدية والصناعية، هي: (1) دعم عدم زراعة القمح، (2) توفير مخزون استراتيجي من المياه لدى المستهلكين، (3) الدعم الحكومي للأدوات الصحية قليلة الاسـتهلاك للمياه، وذلك بهدف التعرف على إيجابيات كل منها.
(1) دعم عـدم زراعـة القمــح:
إنَّ الاسـتمرار بدعم زراعة القمح في ظل شـح الموارد المائية في المملكة يعد خطأ كبيراً يصعب فهم الأسباب التي دعت كل من وزارة المالية والاقتصاد الوطني ووزارة التخطيط إلى تبنيه. حيث يمكن للدولة أن توقف دعم زراعة القمـح، وتتبنى سـياسـة لدعـم عــدم زراعة القمح تقـوم على الأسـاسـين التـاليين:
أ- تقديم إعانة لمزارعي القمح بمعدل (50) هللة للكيلوجرام لعدم زراعته؛ وقليل جداً من المزارعين يحقق ربحـاً صافيـاً يبلغ (50) هلله للكيلوجرام من القمح.
ب- اسـتيراد احتياجات المملكة من القمح (السعر العالمي الحالي للقمح 450 ريال/طن).
حيث سـتحقق هذه السـياسـة المكاسـب الماليـة والمـائية التاليـة:
- توفير ما لا يقل عن 2000 مليون ريال سنوياً.
- توفير ما لا يقل عن 4000 متر مكعب من المياه الجوفية غير المتجددة سنوياً.
ولكن هـل سـياسـة دعم عدم الزراعة هذه جديدة في علم الاقتصاد والزراعة ؟!
بالطبع لا. فقد سـبق وأن اسـتخدمت في دعم تخفيض المساحة المزروعة، وبالتالي فائض الإنتاج الزراعي، في الولايات المتحدة الأمريكية إبـَّان فترة رئاسة رونالد ريجان في الثمانينات الميلادية، حيث أطلق على هذه السـياسـة اسم الدعم بالمثل Payment in Kind. فقد وجدت الحكومة الأمريكية نفسها آنذاك أمام ملايين الأطنان من الذرة والقمح والزبـدة وغيرها من السلع الزراعية التي تشتريها من المزارعين لمنع تدهور الأسعار السوقية لهذه السلع، وذلك ضمن استراتيجية دعم القطاع الزراعي. وإزاء هذه الجبال من هذه المنتجات الزراعية المدعومة، لجأت الحكومة الأمريكية إلى إعطاء المزارعين من هذه الكميات المخزونة لديها مقابل عدم زراعة المزارعين لهذه المحاصيل، وذلك كنوع من الدعم الزراعي بدلاً من شراء فائض إنتاجهم. وهكذا، فما هي إلا عدة سنوات حتى تخلصت الحكومية الأمريكية من ملايين الأطنان من المحاصيل دون أن تؤثر على الأسعار السوقية لها.
(2) مخزون اسـتراتيجي من الميـاه لدى المسـتهلكين:
هذه الآليـة لم تجـد الاهتمام اللازم من الأجهزة المسـؤولة عن المياه في المملكة. حيث لا يوجد أي نوع من التوجيهات من البلديات (الأمانات) للمواطنين بشـأن مقاسات خزانات المياه الأرضية والعلوية في المنازل والمجمعات السكنية، فترى المسـتهلكين يتفاوتون في سعة خزانات المياه في منازلهم. فليس هناك أدنى شـك من أن مخزون المياه لدى المسـتهلك هو في حقيقة الأمر مخزون مياه اسـتراتيجي للدولة ككل.
فعلى سـبـيل المثال، لو كان الخزان الأرضي للمياه في كل منزل يتسع لحوالي (50) متراً مكعباً من المياه، فإنَّ هذا يعني أنَّ عائلة مكونة من عشرة أفراد وبمتوسط استهلاك يومي (250) لتراً للفرد، سـوف يكون لديها في المنزل مخزون مياه يكفيها عشـرين يوماً. وبالتـالي سيكون لدى مصالح الميـاه والصرف الصحي مخزون اسـتراتيجي من المياه لدى المستهلكين يكفي لمدة (20) يوماً.
والسؤال: هـل بالفعل يوجـد مثل هذا المخزون لدى المسـتهلكين في منازلهم ؟!
الواقع يؤكد عدم وجود أي توجيه من مصالح المياه أو البلديات والأمانات حول أحجام خزانات المياه الأرضية أو العلوية في المنازل، وهذه الحقيقة واجَهَ تداعياتها سكان مدينة الرياض في الصيف الماضي عندما تعرض خط الأنابيب الذي ينقل المياه من محطات التحلية في الجبيل إلى الرياض للكسر قرب مدينة الرياض. فلم يكن لدى المواطنين مخزون استراتيجي من المياه في منازلهم، مما خلق سوقاً سوداء للمياه وصل معها سعر الصهريج لأكثر من 1200 ريال، على الرغم من مراقبة الأجهزة المعنية.
وبمعنى آخر، فالمشـكلة البسـيطة التي واجهتها مدينة الرياض الصيف الماضي، تخفي وراءها مشـكلة أكبر بكثير، وهي المتمثلة ـ لا سمح الله ـ بوقف إمدادات المياه من محطات التحلية بالجبيل لأي سـبب كان. فخزانات المياه الاسـتراتيجية قرب مدينة الرياض لا تكفي استهلاك أكثر من ثلاثة أيام بمعدلات الاستهلاك الحالية، أو (5 ـ 7) أيام على الأكثر في ظل ترشيد الأفراد لاستخداماتهم بمعدل النصف.
وبالتالي فموضوع الخزانات الاستراتيجية للمياه لدى المسـتهلك ومصالح المياه في مدن المملكة، حقيقة أمنيـة أخطر بكثير من حقيقة الأمن الغذائي. حيث إنَّ الغالبية العظمى من المواطنين يملكون في منازلهم مواد غذائية تكفيهم لعدة أسابيع، في حين لا يملك غالبيتهم من الماء ما يكفيهم ثلاثة أو أربعة أيام على الأكثر.
(3) دعم الأدوات والأجهزة الصحية قليلة الاسـتخدام للمياه:
لا شـك بأنَّ سـياسـة تطبيق رسـوم ميـاه تشـجع على ترشـيد استخداماتها، تعتـبر من أنجع سياسات اسـتراتيجية ترشـيد اسـتخدامات المياه في القطاع البلدي والصناعي وحتى الزراعي، وذلك ضمن سـياسـات اسـتراتيجية إدارة الطلب للموارد المائية. ولكن يأتي بعدها في الأهمية سـياسـة دعم تصنيع وشـراء الأجهزة والأدوات الصحية قليلة الاستهلاك للمياه (صناديق الطرد والحنفيات ذاتية الفتح، كالتي تعمل على الخلية الضوئية Photo-Cell Faucets).
وتأتي أهمية سـياسـة دعم المواد الصحية قليلة الاستخدام للمياه، كونها تركز على الأجهزة والأدوات الأكثر استهلاكاً للمياه في المنزل، وهي صناديق الطرد لكراسي دورات الميـاه (التواليت) والحنفيات (الصنابير).
فعلى سـبيل المثال فـإنَّ أغلب خزانات الطرد (السيفون) في دورات المياه بالمملكة يسـتهلك حوالي (12) لتر في كل عملية تنظيف، في حين هناك صناديق طرد بنصف السعة (6 لترات) تعطي نفس مفعول التنظيف، مما يعني توفيراً كبيراً في استهلاك المياه المنزلية، خاصة إذا ما علمنـا أنَّ صناديق الطرد تسـتهلك بمفردها حوالي 39% من استهلاك المنزل يومياً (جدول 3). ولا يوجد إلى الآن أي نظام أو قرار حكومي يمنع بيع أو اسـتيراد أو تصنيع الأدوات الصحية المُبذِّرة للمياه؛ في حين نجد أن أنظمة البناء الأمريكية تمنع اسـتخدام خزانات طرد ذات سعة أكبر من (6) لترات في الوحدات السكنية التجـارية.
وبالتـالي لو قامت الدولـة بدعم المسـتهلك لشـراء صناديق الطرد سـعة (6) لترات، فـإنَّ التوفير سيكون ضخماً جداً؛ ولنترك الأرقام تتحدث عن هذه الحقيقة. فطبقاً لأحدث الإحصائيات، يبلغ عدد المشتركين في مصلحة المياه والصرف الصحي في مدينة الرياض حوالي 250.000 مشترك (فلل، بنايات، استراحات). وبأخذ معدل أربعـة دورات مياه (حمامات) لكل مسكن، فإنَّ ذلك يعني وجود حوالي مليون دورة مياه (حمام) في مدينة الرياض، على الأقل.
ولو فرضنا أنَّ الحكومة تبنت برنامجاً لدعم تغيـير 20% فقط من صناديق الطرد الكبيرة (سعة 12 لتر) في مدينة الرياض بصناديق طرد صغيرة (سعة 6 لترات)، فإنَّ ذلك يعني توفير حوالي 7.200 متر مكعب يومياً. وبحساب تكلفة (5) ريالات للمتر المكعب من المياه، فـإنَّ ذلك يعني توفير حوالي (36) ألف ريال يومياً أو (13.14) مليون ريال سنوياً، مقابل تكلفة (80) مليون ريال تتحملها الدولة (عدد المشتركين في مصلحة المياه والصرف الصحي بمدينة الرياض يبلغ 250.000).
أي أنَّ الدولة سـتسـتعيد كامل قيمة دعم تغيـير دورات المياه هذه خلال (6) سنوات فقـط، فهـل يسـتحق برنامج الدعم هذا الدراسـة والتحليل لمعرفة العوائد والفوائد الحقيقية من تطبيقه ؟!
ومــاذا عن دعم تغيـير بقية الأدوات الصحية الشرهة الاستخدام للمياه بأخرى قليلة الاستخدام للمياه ؟! ماذا عن اعتماد خطة لإدخال الحنفيات ذاتية الفتح في دورات المياه العامة في المساجد والفنادق والمطاعم وغيرها ؟! ترى ما هي العوائد من مثل هذه الاستراتيجيات ؟!
وجبـة البوفيـه في المطعم وأسـعار الـميــاه !؟
كـثر الحديث عن إخفاق الإعلام والتوعية وأجهزتهما في تفعيل استراتيجية ترشيد استهلاك المياه في القطاع البلدي والصناعي، ودعوة هؤلاء إلى ضرورة تكثيف وتركيز الحملات الإعلامية والتوعوية في هذا الصدد، وأنها السـبيل الأهم لتحقيق ترشيد استخدام المياه. هذه الدعوات يكثر إطلاقها والتركيز عليها دون إعطاء موضوع السعر أو رسـم المياه الأهمية التي يستحقها في عملية ترشيد الاسـتهلاك، وكأن السعر يحتل المرتبة ما قبل الأخيرة في قائمة الآليـات أو السـياسـات التي تشـجع على ترشيد استهلاك المياه.
ولكن يبدو أنَّ هناك شـبهاً كبيراً جداً بين السعر المنخفض للمياه البلدية في المملكة (ودول كثيرة)، ونظـام وجبة البوفيـه في المطاعم !؟
ففي نظام وجبـة البوفيه في المطعم يقوم المستهلك بأكل ما يطيب له من الأكل والحلويات مقابل سعر محدد. بمعنى آخر، بإمكان المستهلك تجريب ـ وليس أكل ـ جميع أنواع الأكل المعروض، إضافة إلى تناول الكميات التي يرغبها من السلطة والحلويات؛ كل ذلك بسعر ثابت، بغض النظر عن الكميات أو الأنواع التي يسـتهلكها، أو بالأحرى يهدرها أثناء تناوله وجبـة البوفيـه هذه. وبالتالي، فما هي الدوافع التي تجبر هذا المسـتهلك على الحد ـ أو ترشيد ـ من تناوله كميات أو أنواع الطعام تحت نظام وجبة البوفيه ؟! وهل سـيقوم نفس المستهلك بأكل أو تجريب نفس الكميات والأنواع من المأكولات والسلطات والحلويات، فيما لو كان هناك سـعر لكل طبق ؟!
بالطبع لا، ونفس الكلام ينطبق حرفياً على استهلاك المياه في المنزل. ففي ظل انخفاض أسعار أو رسوم المياه في القطاع البلدي والصناعي، ما هي الحوافز أو الدوافع للمستهلك ليقوم بترشيد استهلاك المياه ؟! وما هي الحوافز التي تدفعه لشراء أجهزة ترشيد استخدام المياه ؟! طالما أنَّ سـعر المياه أقل بكثير من تكاليف هذه الأجهزة.
والكل يعرف أن موضوع رسـوم أو تسـعير المياه المنزلية موضوع حسـاس وحرج، إلا أنَّ التهرب من الوقوف عنده وتحليله وتقويمه من جميع الجوانب لوضعه في المسار الصحيح، لن يؤدي بأي حال من الأحوال إلى قيام المواطن بأي عمليات ترشـيد حقيقية لاستهلاكه من المياه، يكون لها عوائد كبيرة لقطاع المياه المنزلية.
وبالتالي وعلى الرغم من حساسية التطرق لموضوع أسعار أو رسوم المياه المنزلية، فـإنه من البسـاطة بمكان مواجهة هذا الموضوع الحساس، والوصول إلى نظام سعري للمياه المنزلية يجـبر المسـتهلك على الترشـيد، دون أن يضر بالمواطنين ذوي الدخول المنخفضة، فالمملكة ليست الدولة الوحيدة في العالم التي توفر المياه المنزلية لسكانها بأسعار مدعومة.
هنا انتهت المقتطفات من محاضرة الأستاذ الدكتور محمد القنيبط التي نرجو أن يستفاد منها، كما نرجو أن تلقى الأفكار التي يطلقها العلماء السعوديون نفس الاهتمام الذي تلقاه أفكار غيرهم من عرب وعجم.
المراجع:
الصويان، سعد عبدالله (محرر)، (1420هـ)، موسوعة الثقافة التقليدية، دار الدائرة للنشر والتوثيق بالرياض.
العسيري، عبده قاسم الشريف، (1422هـ)، جهود المملكة العربية السعودية في مكافحة التصحر وصون الموارد الطبيعية، في عبدالله بن ناصر الوليعي، حماية البيئة في عهد خادم الحرمين الشريفين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية (تحت الطبع).
الغنيم، عبدالله بن يوسف، (1981م)، أقاليم الجزيرة العربية بين الكتابات العربية القديمة والدراسات المعاصرة، الجمعية الجغرافية الكويتية، الكويت.
الهيئة الوطنية لحماية الحياة الفطرية وإنمائها، اتصالات مباشرة.
وزارة الزراعة والمياه، (1405هـ)، أطلس المياه، وزارة الزراعة والمياه بالرياض.
الوليعي، عبدالله بن ناصر، (1416هـ)، المحميات الطبيعية في المملكة العربية السعودية، الهيئة الوطنية لحماية الحياة الفطرية وإنمائها.
الوليعي، عبدالله بن ناصر، (1417هـ)، الجغرافيا الحيوية للمملكة العربية السعودية، الرياض.
الوليعي، عبدالله بن ناصر، (1417هـ)، جيولوجية وجيومورفولوجية المملكة العربية السعودية، الرياض.
الوليعي، عبدالله بن ناصر، (1408هـ)، تغيّرات المناخ في المناطق الجافّة: دراسة حالة المملكة العربية السعودية"،الكتاب الجغرافي السنوي، مجلد 4، ص ص 31-85، كلية العلوم الاجتماعية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
الوليعي، عبدالله بن ناصر، (1415هـ)، صحراء الربع الخالي: موطن محمية عروق بني معارض، الهيئة الوطنية لحماية الحياة الفطرية وإنمائها.
الوليعي، عبدالله بن ناصر، (1417هـ)، بحار الرمال في المملكة العربية السعودية، الرياض.
Alwelaie, Abdullah N., (1994), Protected areas in Saudi Arabia: Sustainable use of natural resources, GeoJournal, 34 (4), pp.383-392.
Anton, D., (1984), Aspects of Geomorphological Evolution Paleosols and Dunes in Saudi Arabia, in A. Jado and J. Zotl, (eds.), Quaternary Period in Saudi Arabia, pp. 275‑296, Springer‑Verlag, New York.
Chaudhary, Shaukat, (1995), The Eastern Empty Quarter: A preliminary Report, Unpublished report, National Herbarium, NAWRC, Riyadh.
McClure, H., (1976), Radiocarbon chronology of Late Quaternary Lakes in the Arabian desert, Nature, Vol. 263, pp. 755‑756.
McClure,H., (1978), Ar Rub Al Khali, in S. Al‑Sayari and J. Zotl, (eds.),Quaternary Period in Saudi Arabia,(Vol.1), pp.252-263, Springer‑Verlag, New York.
McClure, H., (1984), Late Quarternary Palaeo-environments of the Rub'Al‑Khali, Unpublished Ph. D. Dissertation, University of London.
Philby, J, (1933), The Empty Quarter, Constable, London.
Thesiger, W., (1948), Across the Empty Quarter, Geographical Journal, Vol. 111, pp.1-21.
Thesiger, W., (1959), Arabian Sands, Readers Union, Longman, London.77